ديباجة الملتقى
تبدو العلاقة بين المسرح والسينما وثيقة، فالسينما وهي من الفنون الحديثة اعتمدت في بداياتها الأولى على الإبداع المسرحي وتقيدت بتقاليدة لفترة من الزمن. فالكاميرا ثابتة في مكانها والحركة أمامها تنتظم بشكل أفقي وقبل أن يصبح للصورة السينمائية خصائصها من حركة وواقعية وشاشة عريضة وألوان وشخصية وجودة وواقعية فنية ودور تعبيري وتشكيلي لتنقل الأعمال المسرحية كما هي، إلى أن تحررت الكاميرا وبدأت تنفرد بتقنياتها وخصائصها، أصبح لزاما عليها أن تبحث عن موضوعاتها والدراما الخاصة بها. فبدلاً من نقل الدراما المسرحية كما هي بدأت بتحويلها إلى أفلام سينمائية متميزة. وأصبح للسينما لغتها ومادتها خصوصاً في معالجتها للزمان والمكان.
إن المسرح يرصد أمكنة تعتمد في عمومها على المشهد كوحدة أساسية، من خلال سينوغرافيا ثابة (أو متحولة إلى حد ما) يجري عليها الفعل المسرحي، ويتواصل طوال العرض، ويراعي الفنان والمتلقي معا طقسية المكان الذي تقترحه السينوغرافيا بكل عناصرها، كما تُراعى أبجدية الدلالات والمعاني المفتاحية الناجمة عن هذه المساحة المعلومة، إذ لا فعل خارج هذه المساحة. ويبقى المشاهد على موقع ثابت بينه وبين خشبة المسرح الثابتة هي الأخرى.
بيد أن السينما تعتمد اللقطة كوحدة بناء، ونظراً لطابعها التحليلي، يبقى الفعل فيها مستمراً (لأنها تتعامل مع سلسلة من قطع المكان) والإطار فيها مؤقتاً، سواء كان مغلقاً أو مفتوحاً، فهو وسيلة للعزل، يعرض جزءاً صغيراً من المنظر، وهناك جانب من الفعل ينتظر خارج الإطار لكي يصور.
أما المشاهد في السينما فيتجه ببصره اتجاه عدسة الكاميرا، التي لا تسمح له أن يتحرك ببصره في أي اتجاه أومن أية مسافة، فهناك لقطات قريبة مكبرة وهناك لقطات بعيدة تعطيه رؤية شاملة من خلال الشاشة لا يملك لها تحويرا أو تغييرا مهما كانت المسافة التي تفصله عن الشاشة.
ومن هذا المنظور المكاني، نجد المسرح ثلاثي الأبعاد (طول وعرض وعمق) وترتب الأشخاص والديكورات والإكسسوارات لتبدو أكثر واقعية حيث الإدراك يتجه لمقاربة المكان والحجم لما هو عليه في الحقيقة، وحيث الحضور الحي للممثلين الذي يستحيل تقليده في السينما، التي تقدم صورة ذات بعدين للمكان والأشياء، وتفتقد إلى التفاعل الحي بين الممثل والمشاهد. هذا التفاعل الذي يجعل مسرحية تاريخية كهاملت تبدو جديدة دوماً، وذات مضمون متجدد، رغم ثبات الحوار والكلمات. فالأداء والتفسير يمكن أن يتغيرا ليتلاءما مع الذوق والعصر السائد. وهذا ما لم تستطعه السينما نظرا لانحصارها بخاصية التعليب، والعرض الثابت غير القابل للتجدد.
إن مشاهد المسرح يكون أكثر فعالية لأن العناصر المرئية التي تقدم ضمن فضاء سينوغرافي محدد تتطلب منه الفرز وملء الفراغات التي لا تستطيع الدراما أن تحيط بها، عكس السينما التي تقدم التفاصيل الصورية بزخم وتدقيق يدعو إلى الاسترخاء أحياناً، فثمة إشباع صوري يقابله في المسرح الإشباع اللغوي.
إن السينما التي تملك الحرية والانطلاق في شتى الاتجاهات تعالج السينوغرافيا بطريقتين فهي إما أن تكتفي بأن تعيد بناء المكان وتجعلنا من خلال حركة الكاميرا نشعر ونحس به كشيء ملموس لا كصورة فوتوغرافية (وهي تقترب من المسرح). أو هي تحققه بخلق أبعاد مكانية جمالية تركيبيةٌ يدركها المتفرج من تتابع أماكن مجزأة قد لا تربطها علاقة مادية سوى من خلالالدراما نفسها، وهذا ما لا يستطيع المسرح أن يقوم به إلا بالإيحاء عن طريق الحوار أو المشاهد الرمزية. والسينوغرافيا في كل الأحوال سواء في السينما أو المسرح خاضعة خضوعاً مطلقاً للحدث، فهي وسيلة لا غاية تشكيلية كما يقول (مارسيل مارتن).
وأخيرا، إن السينما – و إن حاولت في مسارها التملص من الإرث الجمالي للدراما – فإنها كانت تستمد كثيرا من منطقها و جمالياتها لصالح أجناسها وأنواعها الفيلمية، وبحكم التقارب والتجاور الجلي بين هذين الفنين، فإن التباين بينهما سرعان ما يخفت ويتلاشى عبر منعطفات فنية تطورية، تعيد مُساءلة الفن السابع في علاقته بالفن الرابع.
للمزيد من التفاصيل……….